الجمعة، 23 يناير 2009

"الموساد" و الـ"ميغ – 21"


في بداية الستينات من القرن الماضي، وبينما كانت الحرب الباردة بين القوتين الأعظم على أشدّها، فاجأ السوفيات العالم بالطائرة المقاتلة «ميغ ـ21», التي كانت حديث الأوساط العسكرية كافة بسبب تفوُّقها على نظيراتها في دول حلف الأطلنطي، وكانت تتميز بسرعة 2062 كلم/ ساعة في دائرة مغلقة طولها 500 كلم، وبسرعة 1298 كلم/ساعة في دائرة مغلقة طولها 100 كلم، وبلغت أقصى سرعة مستوية للطائرة 2375 كلم/ساعة، في حين كانت السرعة بمقدار النصف عند الطائرة سكاي هووك في ذلك الوقت، و1400 للفانتوم و1500 للميراج، وكانت أبعاد ومقاسات الطائرة محيّرة، إذ بلغ عرض أجنحتها 760 سم، وطول جسمها 16.75مترًا، وذلك ما لم يتوافر للطائرات الأميركية والفرنسية أو الإنكليزية. تحولت الطائرة بالنسبة الى دول حلف الأطلنطي إلى كابوس مزعج ولغز محيّر يسعون بشتى الطرق الى فك طلاسمه، والأهم من ذلك كله أن الميزات كلها كانت موضوعة بين أيدي الطيارين العرب في مصر وسورية والعراق، تفتقد إليها إسرائيل، فكانت الرغبة عارمة في كشف أسرارها عن قرب، وصار الحصول عليها بأي ثمن هدفًا أميركيا ـ إسرائيليا مشتركًا للوقوف على خفايا قوتها وأسرارها.
في تلك الفترة، من نهاية عام 1961، ألقت المخابرات المصرية القبض على الجاسوس المصري، الأرمني الأصل، جان ليون توماس، واعترف خلال التحقيق أن الإسرائيليين أغروه بمبلغ ضخم إذا استطاع تجنيد طيار مصري يقبل الهروب بطائرة ميغ ـ 21 إلى إسرائيل مقابل مليون دولار، فبات الأمر بعد انكشافه وإعدامه أكثر صعوبة.
اتجه تفكير الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية إلى اعتراض طائرة مصرية أو سوريّة وإجبارها على الهبوط في إسرائيل، لكن الفكرة رُفضت، لأن إسرائيل لا تمتلك طائرة تماثلها قوة تستطيع الدخول معها في اشتباك وإجبارها على الهبوط في أحد مطاراتها، وبالتالي فاعتراض الميج 21 بدا مغامرة فاشلة، ففكروا في زرع عميل طيار في أحد أسلحة الجو العربية، لكن رُفض الاقتراح لأنه يستلزم فترة طويلة ليست في مصلحتهم ونسبة نجاحه لا تتعدى الواحد في المائة، من هنا اعتمد الخيار الأخير وهو تجنيد طيار عربي وإغراؤه بمبلغ كبير للهروب بطائرته إلى إسرائيل وكان الأمر يحتمل النجاح بنسبة 25%، لذا بدأ التنسيق المخابراتي لمعرفة أية معلومة ولو كانت تافهة عن طياري مصر وسورية والعراق من خلال العملاء في العواصم العربية وما تنشره الصحافة العربية في صفحات النعي والاجتماعيات، وبدأت الخطوات التنفيذية لخطتهم الشيطانية.
ليلة «أنس» في باريس
ذات ليلة من ليالي باريس الصاخبة في أواخر صيف عام 1964، كان في أحد ملاهيها ضيف عراقي غدا محط أنظار، إنه سائح أتى من بلاد الرافدين ليستمتع بكل لحظة في رحلته إلى باريس، وشدّت انتباهه فتاة تبدو متحررة تمامًا، ومنجذبة إليه من النظرة الأولى.
كان يركّز عينيه عليها يتأمل جسدها، وهي أيضا تركز عينيها عليه، لكن لأسباب مختلفة، فهي تعمل ملحقة ثانية في سفارة إسرائيل في باريس، لكنها، وكان ذلك عرفا سائدا وقتها، كانت إذا قابلت عربًا تخفي جنسيتها الإسرائيلية، وتقدم نفسها على أنها مواطنة فرنسية تريد أن تستمتع بوقتها، لكنها بعد قليل تحرّك دفة الحديث بحرفية شديدة نحو السياسة.
اكتشفت الإسرائيلية أن المواطن العراقي ساخط على نظام الحكم في بلاده، وعلى حزب البعث الذي كان ممسكا بزمام الأمور، واستفزته قائلة: «يبدو أنك تبالغ في تضخيم الأمور».
لكن السائح العراقي كمن ألقى بقنبلة رهيبة أمامها، قال: «إطلاقا لا أبالغ، إن لي مثلا صديقا أعرفه في بغداد، يستطيع بمفرده أن يعطي لإسرائيل أحدث طائرات الجيش العراقي، وهي الطائرة السوفياتية الميغ-21»، فغرقت محدِّثته في الدهشة والذهول وهي تقول له: «معقولي؟! هذا جنون مطبق».
قال لها: «أبدا ، لأن صديقي هذا كرر لي كثيرا أنه لو وجد الطريقة المناسبة فإنه سينتقم من هؤلاء الأوغاد في السلطة بتسليمه طائرة ميغ-21 لإسرائيل». ردت بحرفية وبعفوية: «تعرف أنني كنت أفكر مع صديقة لي بزيارة العراق، إن جو الشرق يسحرني، ولا شك في أننا سنكون أكثر متعة لو قضينا معا نحن الأربعة، أنا وأنت وصديقك وصديقتي، أسبوعين أو ثلاثة معا في بغداد الساحرة، بلد علاء الدين والمصباح السحري».
قال لها وبكل زهو: «بكل سرور، عليك الاتصال بنا فحسب قبل مجيئك من باريس، لا أقيم في مدينة بغداد ذاتها، لذلك سأعطيك رقم تلفون صديقي في بغداد وهو سيدبر كل شيء فورا». أعطاها رقم هاتف صديقه، واسمه جوزيف، ثم غيرت دفة الحديث الى موضوع آخر بعيدا عن السياسة كي لا تلفت انتباهه.
في اليوم التالي، اتجهت الفتاة الإسرائيلية الى مقر عملها في سفارة بلدها في باريس، والتقت بزميلها مندوب الموساد، وقصت عليه ما حدث، فطلب منها فورا أن تتابع العلاقة، لكنها أصيبت بخيبة أمل حينما اتصلت به في الفندق ووجدت أنه غادره صباحًا، ربما إلى فندق آخر أو ربما عاد إلى بغداد، فأرسل مندوب الموساد تقريرا عاجلا بالموضوع إلى قيادته في تل أبيب.
مجازفة
في تل أبيب توقّف مائير أميت (أو عاميت)، رئيس الموساد، أمام كلمة «الميغ ـ 21»، فهو تقرير روتيني، لكن تلك الكلمة بدت مثيرة تمامًا، فالطائرة هي حلمهم وشغلهم الشاغل منذ فترة.
كانت المشكلة أنه حينما عيِّن أميت رئيسًا للمخابرات الإسرائيلية في 25 مارس (آذار) عام 1963، أي قبل عام ونصف، عقد اجتماعات متتالية مع كبار المسؤولين في وزارات الحكومة الإسرائيلية كافة بهدف التوصل إلى مزيد من التنسيق بين كل منها وبين الموساد.
حينما جاء الدور على أميت كي يجتمع مع موردخاي هود، رئيس سلاح الطيران الإسرائيلي، سأله: «ما هي الأولويات التي تتصدر طلبات سلاح الطيران الموساد؟»، فرد عليه هود بكلمات حزينة: «لدينا طلبات عدة، لكن أخطرها هو ما يبدو لي كالحلم المستحيل، إننا نريد أن نعرف على وجه الدقة أسرار تلك الطائرة السوفياتية الجديدة التي حصل عليها العرب، الطائرة ميغ-21».
كانت الأخيرة حصلت عليها كل من مصر وسورية والعراق، وأصبحت تشكّل العمود الفقري لسلاح الجو في تلك البلاد، وأصبح على إسرائيل أن تعرف أسرار السلاح الذي ستواجه به في أي حرب محتملة مع العرب.
كانت المشكلة أن السوفياتيين متيقظون تمامًا على أسرار الميغ -21، وكان إقدامهم على بيع هذا الطراز للمرة الأولى لدول خارج كتلة حلف وارسو يمثل مجازفة كبرى، لذلك، قبل أن يوافقوا على بيعها لمصر وسورية والعراق اشترطوا الحصول على تعهدات باتخاذ أكثر الإجراءات صرامة لحماية أسرار الطائرة الميغ-21 من التسرب إلى أية دولة.
هكذا أصبحت كل واحدة من الدول العربية الثلاث تتخذ إجراءات مشددة لاختيار نوعية الطيارين الذين يُسمح لهم بقيادة طائرات الميغ-21، فيراعى في شخصية من يتم اختياره أن يكون محصنًا ضد أي اختراق، لا يقبل الرشوة، لا يثرثر خارج قاعدته الجوية عن أي شيء يتعلق بالطائرة، ولا يضعف أمام النساء.
من هنا عندما ورد ذكر الميغ في تقرير مندوب الموساد في السفارة الإسرائيلية في باريس، أضاءت مصابيح الخطر في عقل أميت، صحيح أن كلام السائح العراقي قد يكون مجرد ثرثرة أو نوع من المزاح، وقد يكون مجرد طُعم يقدم الى المخابرات الإسرائيلية لتقع في الفخ، فجهاز المخابرات يواجه يوميًا عشرات الأفخاخ المزيفة والإغراءات غير الحقيقية، وكلما زاد بريق هذه الإغراءات وجاذبيتها كانت أدعى الى الشك، وفحصها يكلّف وقتا طويلا ومالا كثيرا، لكن... إنها الميغ-21، إنها حلمنا الكبير... المستحيل.
طلب أميت تقريرا عاجلا خلال 24 ساعة بالتقييم المحتمل لإمكانات المجازفة، ومن خلاله تبين أن الخطر الأكبر بشأن الشخص العراقي الغامض في باريس ليس قصته الملفقة، بل أن يكون مجرد أداة لتقديم الطعم للإيقاع بالمخابرات الإسرائيلية.
المطلوب الآن هو متابعة المخاطرة، والتأكُّد من هوية الإسم، في بغداد اسم جوزيف ورقم هاتفه، فإذا أوكلت الموساد المهمة الى أحد أفراد شبكتها الخاصة من الجواسيس السريين في بغداد، فإن أي خطأ سيؤدي إلى الإيقاع بالشبكة الإسرائيلية كلها. من ناحية أخرى، فإن فحص أحد عملاء إسرائيل السريين في بغداد رقم الهاتف من خلال مصلحة التلفونات العراقية معناه المجازفة بانكشافه، لأن ثمة احتمالا قويًا بأن السلطات العراقية تراقب الهواتف.
مهمّة انتحاريّة في بغداد
هكذا أصبح من الضروري وضع خطة أخرى تنفّذها المخابرات الإسرائيلية، وتسريب عميل إسرائيلي إلى بغداد، تكون لديه التجربة والخبرة الكافيتان لعمل تقييم ميداني سريع للموقف من داخل بغداد، وفي الوقت نفسه لا تكون لديه أية معلومات ذات قيمة عن جهاز المخابرات الإسرائيلية من الداخل، كي لا يضطر إلى إفشائها في حالة نجاح العراقيين في كشفه والقبض عليه.
قال ميشيل شارون رئيس العمليات في الموساد: «الاحتمال الأكبر لمثل هذا العميل الذي سنرسله إلى العراق هو أنه سيلقى حتفه، فاحتمال انكشافه أكبر من احتمال نجاحه، فما رأيك؟»، فرد أميت: «حصولنا على أسرار الميغ ـ 21 أهم من حياة شخص أو مائة شخص، فإذا كان الذي سنختاره كي يلقى حتفه هناك... فليكن».
استقر الأمر في النهاية على اختيار الشخص المطلوب، والذي ستقوم إسرائيل بإرساله سرا الى بغداد، اسمه يوسف منشو (منصور)، يهودي إسرائيلي من أصل عربي، سبق له التدريب بسلاح المظلات، حاصل على شهادة في الدراسات العربية من جامعة القدس، وبحكم أصله ودراسته ولغته كان مناسبا جدا للمهمة، فضلا عن أنه لا يعرف أي شيء عن جهاز المخابرات الإسرائيلية من الداخل، وبالتالي ليست ثمة خطورة على الموساد في ما لو قبض عليه.
في مكان خاص في تل أبيب بعيدًا عن مبنى الموساد، اجتمع أميت، رئيس الجهاز، مع يوسف منصور، ليشرح له طبيعة مهمته، فقال له: «تشير المعلومات التي أدلى بها العراقي الغامض عن جوزيف إلى أنه شخص متعصّب بشدة ضد الحكومة العراقية القائمة، ومن هنا يمكن أن تأتي خطورته، فمثل هذا النوع من الأشخاص يمكن أن يتحول من النقيض إلى النقيض في لحظة واحدة، فمثلا بمجرد أن يتم الاتصال التلفوني بينك وبينه ثمة احتمال أن يبادر هو بالإتصال بسلطات الأمن العراقية كي يثبت لهم ولاءه، لكن عليك ألا تشغل بالك بشيء، لأننا نرتب للأمر بتفاصيله كلها».
كان الترتيب الذي أشار إليه رئيس الموساد متميزا، فأمام خطورة المهمة واحتمالاتها المتأرجحة في بغداد، رفض أميت أن يضحّي بأي احتمال لانكشاف شبكة جواسيسه السرية في بغداد، في حال القبض على يوسف منصور، لكن في الوقت نفسه أخذ التفكير اتجاهًا آخر.
قبلها بسنوات قليلة، كان جهاز الموساد أقام في أوروبا شركة لصناعة الأجهزة الكهربائية والطبية وبيعها، وأُنشأها خصيصا، كي تبرم أكبر عدد من الصفقات التجارية مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، وبينما كانت هذه الشركة تحقق أرباحا لا بأس بها كل سنة، فإنها كانت غطاء كافيا لعملاء المخابرات الإسرائيلية، الذين تريد إسرائيل تسريبهم بين وقت وآخر إلى الدول العربية على أساس أن العميل المخابراتي هنا سيدخل على أنه بريطاني أو ألماني أو فرنسي الجنسية، وباعتباره ممثل مبيعات لشركة أوروبية كبرى، وتحت الستار التجاري يجمع المعلومات لحساب إسرائيل، من دون أن تعرف الدولة أنها تتعامل مع جهاز المخابرات الإسرائيلي.
أدرك أميت، رئيس المخابرات الإسرائيلية، أنه لو نجح العراقيون في كشف الشخصية الحقيقية ليوسف منصور، فإن القبض عليه سيقودهم بالضرورة إلى الكشف عن حقيقة تلك الشركة ودورها السري، ومن ثم ثمة احتمال أن تضطر المخابرات الإسرائيلية إلى إيقاف نشاطها والتضحية به، لكن يقابل ذلك أن الصيد المطلوب الآن هو أسرار الطائرة الميغ ـ 21 ، وذلك يكفي للمغامرة بأي شيء.
قضى العميل الإسرائيلي يوسف منصور أربعة أسابيع في التدريب المكثّف على معدات أشعة إكس، لأنه سيسافر الى بغداد باعتباره مواطنا إنكليزيا خبيرا في تلك المعدات، وممثلا عن الشركة المشار إليها في الترويج لمبيعاتها المختلفة في العراق، وبعدما أتقن حفظ دوره تماما، تقرَّر أن يسافر فورا إلى بغداد।
وصل يوسف منصور إلى بغداد ونزل في فندق بغداد العريق في شارع السعدون، وعلى مدى أسبوع قام بجولات عدة في المستشفيات العراقية وعقد لقاءات مع المسؤولين في وزارة الصحة كي يتقن دوره كمندوب لشركة أجهزة طبية في أوروبا، وكان طوال تلك المدة يهيئ نفسه للمكالمة الهاتفية الحاسمة التي جاء من أجلها مع هذا الشخص المجهول المدعو جوزيف، وأخيرا قرر أن يقوم بها، فلم يعد يحتمل الإنتظار أكثر.
دعا يوسف اثنين من مسؤولي وزارة الصحة لتناول الغداء معه في أحد أفخم فنادق بغداد، إمعانًا في التضليل وتحسّباً لأية مراقبة، وبينما كان الثلاثة منهمكين في تناول العشاء، استأذن يوسف من ضيفيه بحجة أنه لا بد من أن يجري اتصالا هاتفياً يتعلق بالعمل، ومن داخل المطعم أدار قرص التلفون بالرقم الذي معه بيد مرتعشة، وحينما رد عليه الطرف الآخر قال له: «ألو... جوزيف؟»، فإذا بالطرف الآخر يرد: «لا لست جوزيف... من الذي يريده؟»، فقال يوسف: «أنا صديق له من خارج البلد»، وجاءه رد الطرف الآخر: «أنا جوزيف... من أنت؟، فقال يوسف: «أنا قادم كي أقول لك إنه كان أمرًا لطيفًا جدًا أن أقابل صديقك، ربما نستطيع أنا وأنت الجلوس معا لمناقشة الموضوع»، سأله جوزيف بهدوء جعله يزداد ارتباكًا: «هل أنت الجنتلمان الذي قابل صديقي؟» أجاب يوسف بالإيجاب، وخلال لحظات وافق على اقتراح جوزيف بأن يتقابلا معا ظهر اليوم التالي في أحد مقاهي بغداد.
وجهًا لوجـه
في اليوم التالي كان يوسف يجلس في المقهى منتظرًا جوزيف، كان في الستين من عمره، ذا وجه داكن ومجعد، وشعر أبيض... سرح بعيدًا في كم الأخطاء التي ارتكبها، فقد كان عليه أن يختار هو موعد المقابلة ومكانها، لكن جوزيف هو الذي حدد له ذلك، وحدد له نوع الملابس التي سيرتديها، وهو أيضا الذي فرض عليه أن يذهب أولا الى المقهى، يا لها من حماقات لا يمكن أن يرتكبها من يعمل بالتجسس. جوزيف الآن هو الأقوى، وبدلا من أن يكون يوسف هو القط أصبح فأرا دخل المصيدة بقدميه.
جلس الجاسوس الإسرائيلي متخيّلا أن كل العيون تراقبه، ومتوقعًا في أية لحظة أن يُقبض عليه... كاد أن يروح في إغماءة حينما شعر بيد تمتد على كتفه، وصاحبها يسحب بالأخرى مقعدًا ويجلس عليه، ثم قدّم نفسه له: «أنا جوزيف»، ثم قال: «إنه لشيء جميل أن تأتي إلى هنا»... اطمأن يوسف إليه، واستبعد من تفكيره إمكان أن يكون هذا الشخص مع جهاز الأمن العراقي، فقال له يوسف: «إننا مهتمون جدا بالبضاعة التي تحدث عنها صديقك»، فقال له جوزيف: «أنت تقصد طائرة الميغ؟» فابتلع يوسف الكلمات بصعوبة وبشيء من الرعب، بينما استمر جوزيف في حديثه قائلا: «البضاعة ستكلفكم أموالا طائلة، وأيضا تحتاج الى بعض الوقت، لكني أعتقد أن النجاح ممكن في النهاية»، فأردف يوسف: «أصدقائي لا يفهمون كيف ستستطيع أنت إنجاز المهمة التي فشل فيها الآخرون... وأرجو ألا تزعجك صراحتي»، إبتسم جوزيف واقترح مقابلة ثانية، اذ سيكون ثمة مجال أوسع للحديث، واتفقا أن يكون اللقاء في اليوم التالي في إحدى حدائق بغداد بعيدا عن الزحام، وفي ذلك اللقاء بدأ جوزيف يحكي له حكايته.
إنه أولا يهودي، منحدر من أسرة يهودية فقيرة، لكنه حرص على إخفاء تلك الحقيقة عن معارفه، وقد تربى عند أسرة مسيحية عمل لديها كخادم منذ أن كان في العاشرة، كانت أسرة ثرية جدا، وعاش عمره خادمًا لديها وكاتمًا لأسرارها، ومنذ قيام دولة إسرائيل وهو يرى نفسه أنه تابع لها، وكان يكنّ كراهية شديدة للعرب، ويتمنى في قرارة نفسه أن توجّه إسرائيل مزيدا من الضربات الموجعة إليهم، لكنه يتظاهر بأنه مواطن عراقي غيور ومحب لوطنه، وهو لم يتعلم وبالكاد يقرأ بصعوبة، لكنه مخلص لعقيدته اليهودية، ويلتقي سرا بعدد من يهود بغداد يتبادل معهم الأماني بشأن دولتهم الوليدة، ويتعاهدون سوياً على إخلاصهم لها.
كان الإبن الأكبر لهذه الأسرة واسمه منير رضا، تلقى تعليمه في المدارس العراقية، ولم يشعر يوما بأي تمييز بينه كمسيحي ماروني وبين زملائه المسلمين، وأكبر دليل على ذلك أنه اختير ليكون طيارا ممتازا، ونائبا لقائد أحد أسراب الطائرة الميغ ـ 21، التي حصلت عليها العراق أخيرا من الاتحاد السوفياتي، وهي واحدة من أسرع الطائرات المقاتلة وأفضلها في العالم.
كانت أحاديث منير رضا الدائمة بين أفراد أسرته عن مميزات الطائرة الميغ، وتلك الأحاديث المتكررة هي التي ولّدت في رأسه تلك الفكرة الشيطانية، فكرة أن يقدم لإسرائيل خدمة كبرى بتقديم أسرار الطائرة لها، إنه الآن، يعرف من الأسرار الشخصية لأفراد الأسرة كلهم، الذين يعمل خادما لديهم، ما يسمح له بابتزازهم، ويستطيع إقناع منير رضا بالتوجه بطائرته إلى إسرائيل، خصوصا لو ضمن رب الأسرة الثري حياة أخرى من الثراء له ولباقي الأسرة خارج العراق.
ولأن جوزيف كان أميًّا، فإنه كان يرى حلولا سهلة للمشاكل المعقدة، فقد أوصى أحد أصدقائه من اليهود العراقيين الذين يتقابل معهم سرا في بغداد بأن يحاول في أول رحلة له إلى باريس الاتصال بالسفارة الإسرائيلية هناك، وبعد أن تم ذلك فعلا جلس جوزيف في حالة انتظار، واثقا من أن الإسرائيليين سيتابعون الخيط إلى نهايته.
هنا سأله يوسف منصور: «لكن ما الذي يضمن لك هذه الأسرة؟» رد جوزيف فورا: «إنها أسرة بلا انتماء لهذا البلد، وثراؤهم يجعل ولاءهم للمال وحده، ولذلك فلو عرضنا عليهم نصف مليون جنيه استرليني مثلا، فإن هذا سيكون كافيا، أما بالنسبة إلي فإنني أريد الذهاب كي أقضي بقية عمري في إسرائيل، حيث أعتقد أنهم سيكافئونني بما فيه الكفاية».
خطّة محكمة
بعد ذلك بأسبوع، عاد العميل السري يوسف منصور إلى أوروبا، ومنها إلى تل أبيب، وكان في انتظاره مائير أميت شخصيا، فأخبره بما حصل عليه من معلومات في بغداد، وأكد له أنه تأكد من حقيقة وجود الأسرة المارونية الثرية، وأن ابنها الأكبر منير يقود طائرة ميغ ـ 21 فعلا.
بعد شهرين، عاد يوسف مجددا إلى بغداد، ليحصل على مزيد من المعلومات من جوزيف، ويعرض أمامه خطة الهروب بالميغ، وطلب منه إقناع رب الأسرة بأن يقترح على أحد أبنائه السفر فورا إلى سويسرا بحجة العلاج، حيث تستطيع المخابرات الإسرائيلية أن تعطيه نقدًا عربون المهمة، حتى يستطيع الحصول على نصف مليون جنيه في النهاية، وحينما سأل جوزيف عن العربون رد يوسف بسرعة: «ربع مليون جنيه استرليني»، فقال له جوزيف إن منير لن يطير بطائرته إلى إسرائيل إلا إذا تأكد أن والده سيأخذ الأسرة كلها إلى الخارج، ورب الأسرة لن يفعل ذلك إلا إذا أخذ مالا كافيًا.
في مقر المخابرات الإسرائيلية، كانت الاجتماعات تتوالى لبحث تنفيذ العملية، وكان مبلغ النصف مليون جنيه استرليني يعتبر كبيرا، لكن المقابل كان أكبر، بالإضافة الى أن المخابرات الأميركية تسعى أيضا الى الحصول على الميغ، ولا بد من أنها ستسدد الفاتورة، وتشاور أميت مع إسحاق رابين رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية في ذالك الحين، ثم التقى الإثنان برئيس الوزراء ليفي أشكول، وحصل الأخير من مجلس الوزراء المصغر على قرار بالمضي في المشروع، وأثار في معرض حديثه عن المشروع نقطتين في غاية الأهمية:
ــ أولا: نجاح إسرائيل في سرقة طائرة ميغ ـ 21 من العراق سوف يزيد من احترام أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية للمخابرات الإسرائيلية، ومن ثم يضاعفون مساعداتهم لها ودعم شبكاتها.
ــ ثانيا: يجب أن تسعى إسرائيل الى الحصول على مساعدات مبكرة وحاسمة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، لأن لها شبكات أكثر انتشارا في الدول العربية ومن بينها العراق.
بدأ العمل فورا، جنّد جهاز المخابرات الإسرائيلية كله للمهمة، وكان أميت غير مستعد لتحمُّل أي فشل تتسبب فيه أي صدفة غير متوقعة، ولذلك جهّز خمس مجموعات: تتكون الأولى من يوسف منصور وخبير لاسلكي ومهمتها البقاء في بغداد، تحت ستار أنهما من رجال الأعمال، ومن خلال ذلك يستمران في الإتصال بجوزيف وبعض أفراد الأسرة لو أمكن. تتكون الثانية من أربعة أفراد ويكون مقرها بغداد أيضا ومهمتها مراقبة وحماية المجموعة الأولى سرا، ومن دون أن يعلم يوسف منصور نفسه، وأعطت المخابرات الإسرائيلية للأخير رقم صندوق بريد في بغداد هو حلقة الاتصال بينه وبين المجموعة الثانية. أما الثالثة فتتكون من ثلاثة أشخاص هرِّبوا إلى بغداد كي تراقب ليل نهار أفراد الأسرة المارونية من خلال أجهزة ووسائل تنصت الكترونية حصلت عليها إسرائيل من وكالة المخابرات الأميركية.
تأتي بعد ذلك المجموعة الرابعة، وتتكون من ستة أفراد من المخابرات العسكرية، تمركزوا في كردستان بالتعاون مع المخابرات الإيرانية «السافاك»، وكان ذلك في عهد الشاه المخلوع الذي كان يرتبط بعلاقات صداقة وطيدة بالأميركيين وإسرائيل، وكانت مهمة تلك المجموعة الاتصال بالأكراد الذين سيشاركون في تهريب أفراد الأسرة خارج العراق. أخيرًا نصل الى المجموعة الخامسة والأخيرة وكان مقرها منطقة الأهواز في إيران، ومهمتها المساعدة في ترحيل أسرة الطيار منير رضا، وفي الوقت نفسه أُرسل فريق دبلوماسي إلى الولايات المتحدة وتركيا لوضع ترتيبات الهبوط الاضطراري للطائرة في ما لو أصبح ذلك ضروريا، فلقد كانت المشكلة أن رحلة الطائرة من العراق إلى إسرائيل ستكون فوق أراضي معادية ولا بد من وضع ترتيبات محكمة لضمان وصول الطائرة.
هكذا اتسع نطاق الترتيبات كي تشمل أجهزة المخابرات كافة في إسرائيل والولايات المتحدة وإيران وتركيا، وفي بعض المراحل كان شاه إيران يتابع الخطة بنفسه مع جهاز مخابرات بلاده لأنه كان حريصاً تماما على مساعدة إسرائيل ضد العرب، كذلك كان وزير الدفاع الأميركي من مقره في البنتاغون يتابع التطورات أولا بأول.
زيارة سرّية
لكن جوهر الموضوع كله لم يكن يجري داخل بغداد، لقد استغرق جوزيف نحو أربعة أشهر كي ينجح في إقناع رب الأسرة، والد الطيار، بنجاح الخطة، لكن حينما جس الأب نبض ابنه الطيار وجد لديه ترددا شديدا جعل الموضوع يحتاج مزيدا من الوقت، وبعدما سال لعاب أجهزة المخابرات في أميركا وإسرائيل أصبح الكل يتلهف الى إتمام العملية، سافر رئيس المخابرات الإسرائيلية مائير أميت، بناء على تكليف من رئيس الوزراء، سرا إلى واشنطن للاجتماع برئيس المخابرات الأميركية ليحصل منه على مزيد من الضمانات والمساعدات الأميركية العاجلة لإنجاح العملية المشتركة.
بناء على ما اتفِق عليه في الاجتماع، اجتمع دبلوماسي أميركي كبير في السفارة الأميركية في بغداد سرا بالطيار العراقي منير رضا، بهدف حسم التردد لديه، وتقديم مزيد من الضمانات له كي تطمئن نفسه ويثق في نجاح العملية ونقل أسرته سالمة خارج العراق.
بعد المقابلة السرية التي تمت بموعد وفي مكان اختير بعناية فائقة، عاد الدبلوماسي الأميركي الكبير إلى واشنطن تحسبا لأي احتمال مستقبلي بأن تكتشف الحكومة العراقية حقيقة دوره السري في بغداد.
بعد ذلك تلقى منير رضا دعوة لزيارة باريس للاتفاق على باقي الترتيبات، وسافر في صحبة امرأة أميركية جذابة، بحجة أنها وقعت في حبه، وفي باريس وفي سهرة حمراء فقد الطيار الوعي، ولما أفاق وجد نفسه في إسرائيل، وبعد لحظات كان يجلس مع موردخاي قائد سلاح الطيران الإسرائيلي، وكان الغرض من الرحلة استخدامها كنوع من وسائل الضغط لحسم تردد منير رضا، فقد صوِّر وهو فاقد الوعي في أوضاع مخلّة، كذلك صوِّر في إسرائيل مع عدد من قادة الأخيرة، وألمحوا له إلى أنهم سيرسلون الفيلم الى السلطات العراقية، وسيكون مصيره الحتمي الإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
كان الطيار في موقف لا يُحسد عليه، فلو رفض سيكون مصيره الإعدام من السلطات العراقية، ولو وافق فإنه بذلك يرتمي في أحضان إسرائيل، فقرر المضي في العملية، وبعد أشهر بدأ التنفيذ العملي لها. حصل قريب للأسرة على تأشيرة خروج من العراق إلى سويسرا للعلاج، في الوقت نفسه أمكن الحصول على شهادة طبية من أحد الأطباء في بغداد تفيد بأن الطيار الماروني منير رضا يحتاج إلى عملية جراحية ولا بد من إجرائها في لندن، ومن ثم أصبح طبيعيا أن تصحب الأم ابنها في رحلة العلاج.
من ناحية أخرى، كان أمرًا عاديا أن تذهب أسرة ثرية برحلة نهاية الأسبوع إلى كردستان، حيث اتفق مع عملاء الموساد على تهريب أفراد الأسرة جميعا إلى الأهواز داخل إيران، حيث تنتظرهم طائرة هليكوبتر إسرائيلية، وحدد يوم 15أغسطس (آب) 1966 لتنفيذ الترتيبات كلها، وهكذا سيكون الطيار منير رضا بطائرته الميغ في رحلة روتينية في الصباح الباكر شمال العراق.
في الموعد المحدد، استقل منير طائرته من قاعدة الموصل الجوية، وبمجرد أن أصبح في شمال العراق انحرف بطائرته فجأة ودخل الحدود التركية قبل أن تدرك أجهزة المراقبة الروسية الموجودة في العراق حقيقة ما حدث، فاستقبله سرب من طائرات الفانتوم الأميركية إلى أن هبط في قاعدة جوية سرية تابعة للمخابرات الأميركية، حيث تزوَّد بالوقود، ثم أقلع ثانيةً بمصاحبة سرب فانتوم أميركي واتخذ مسارًا فوق البحر المتوسط حتى وصل الى مكانه المحدد في إسرائيل.
بعدها عرفت المخابرات المركزية الأميركية والإسرائيلية أسرار الطائرة الميغ ـ 21، والتي كانت تسبِّب لهما الرعب، وأدى كشف أسرارها إلى مضاعفة قدرة إسرائيل على ضرب مصر وسورية والأردن بعد ذلك بعشرة أشهر فحسب في الخامس من يونيو (حزيران).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق